فصل: فَصْلٌ: وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ:

وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْد الْخُرُوجِ مِنْهَا.

.أَمَّا الَّذِي قَبْلَ الصَّلَاةِ:

فَاثْنَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ.
وَالْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَحَلِّ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ.
(وَأَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَر مُحَمَّدٌ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ ضَرَبْتُهُ وَحَبَسْتُهُ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُ وَيُضْرَبُ وَيُحْبَسُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّهُمَا سُنَّتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، لِمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ: فَقَدْ أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْقَوْلَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَسَعُ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سَمَّاهُ سُنَّةً، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا؟ وَالْإِثْمُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْأَذَانِ- فَإِنَّهُ رَوَى «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنْ تَفُوتَهُمْ الصَّلَاةُ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِبَاهِ الْوَقْتِ عَلَيْهِمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَنْصِبُوا لِذَلِكَ عَلَامَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرِبُ بِالشَّبُّورِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ الْيَهُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُوقِدُ نَارًا عَظِيمَةً فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ الْمَجُوسِ، فَتَفَرَّقُوا مِنْ غَيْرِ رَأْيٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ مَنْزِلَهُ فَقَدَّمَتْ امْرَأَتُهُ الْعَشَاءَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُمُّهُمْ أَمْرُ الصَّلَاةِ، إلَى أَنْ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ رَأَيْتُ نَازِلًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَبِيَدِهِ نَاقُوسٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَبِيعُ مِنِّي هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: أَذْهَبُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَضْرِبَ بِهِ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّك إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟ فَقُلْت: نَعَمْ فَوَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ- الْأَذَانَ الْمَعْرُوفَ- إلَى آخِرِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّهُ لَرُؤْيَا حَقٍّ، فَأَلْقِهَا إلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ، وَمُرْهُ يُنَادِي بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَذَانَ بِلَالٍ خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ يَجُرُّ ذَيْلَ رِدَائِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ طَافَ بِي اللَّيْلَةَ مِثْلُ مَا طَافَ بِعَبْدِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ سَبَقَنِي بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنَّهُ لَأَثْبَتُ».
فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُلْقِيَ الْأَذَانَ إلَى بِلَالٍ وَيَأْمُرَهُ يُنَادِيَ بِهِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْكَارِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ وَإِنْ كَانَ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَهِدَ بِحَقِيقَةِ رُؤْيَاهُ ثَبَتَتْ حَقِيقَتُهَا، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِلَالًا يُنَادِيَ بِهِ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي عُمْرِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ مَهْمَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَاهُنَا.

.فَصْلٌ: بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ:

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ فَهُوَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ، وَنَقَّصَ الْبَعْضُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْتَمُ الْأَذَانُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ الْخَتْمُ (بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وَأَصْلُ الْأَذَانِ ثَبَتَ بِحَدِيثِهِ، فَكَذَا قَدْرُهُ، وَمَا يَرْوُونَ فِيهِ مِنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالِاعْتِمَادُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُكَبِّرُ فِي الِابْتِدَاءِ مَرَّتَيْنِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ حَيْثُ يُؤْتَى بِهَا مَرَّتَيْنِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنِ مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ تِسْعَةَ عَشْرَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةَ سَبْعَةَ عَشْرَ كَلِمَةً، وَإِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّكْبِيرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ.
وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَنَقُولُ: كُلُّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا، فَكَأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ كَمَا يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ تَرْجِيعٌ وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُؤَذِّنُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، يَخْفِضُ بِهِمَا صَوْتَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَيَرْفَعُ بِهِمَا صَوْتَهُ.
(وَاحْتُجَّ) بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَلَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ فِي آذَانِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَرْجِيعٌ.
(وَأَمَّا) حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ فَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ وَمَدَّ صَوْتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ خَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، بَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَخَافَةَ الْكُفَّارِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْهَرُ بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ اسْتَحْيَا فَخَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَكَ أُذُنَهُ وَقَالَ: «ارْجِعْ وَقُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ غَيْظًا لِلْكُفَّارِ».
(وَأَمَّا) الْإِقَامَةُ فَمَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالْأَذَانِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلُهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآمِرَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَتَى بِالْأَذَانِ وَمَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ مَرَّتَيْنِ (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ)، وَرَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَثْنَى.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: كَانَ النَّاسُ يَشْفَعُونَ الْإِقَامَةَ حَتَّى خَرَجَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ فَأَفْرَدُوا الْإِقَامَةَ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ، وَأَشَارَ إلَى كَوْنِ الْإِفْرَادِ بِدْعَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ فِي حَقِّ الصَّوْتِ وَالنَّفَسِ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا- فِي تَفْسِيرِ التَّثْوِيبِ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي- فِي الْمَحَلِّ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ، وَالثَّالِثُ- فِي وَقْتِهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ- فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ كَيْفَ التَّثْوِيبُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ؟ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْأَذَانِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ فَأَحْدَثَ النَّاسُ هَذَا التَّثْوِيبَ وَهُوَ حَسَنٌ، فَسَّرَ التَّثْوِيبَ، وَبَيَّنَ وَقْتَهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْ التَّثْوِيبَ الْمُحْدَثَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقْتَهُ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيَّنَ وَقْتَهُ فَقَالَ: التَّثْوِيبُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ- حَسَنٌ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ أُحْدِثَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَوَصَفَهُ بِالْحَسَنِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوهُ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ».
(وَأَمَّا) مَحَلُّ التَّثْوِيبِ فَمَحَلُّ الْأَوَّلِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِالتَّثْوِيبِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي الْقَدِيمِ، وَأَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي الْجَدِيدِ رَأْسًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ كَوَقْتِ الْفَجْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ كَمَا فِي وَقْتِ الْفَجْرِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا التَّثْوِيبُ، وَكَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ذِكْرُ التَّثْوِيبِ.
(وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بِلَالُ ثَوِّبْ فِي الْفَجْرِ وَلَا تُثَوِّبْ فِي غَيْرِهَا»، فَبَطَلَ بِهِ الْمَذْهَبَانِ جَمِيعًا، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ»، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ وَتَعْلِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ، وَتَعْلِيمُ الْمَلَكِ كَانَ تَعْلِيمَ أَصْلِ الْأَذَانِ لَا مَا يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَامِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَعَنْ السَّمَرِ بَعْدَهَا، فَالظَّاهِرُ هُوَ التَّيَقُّظُ.
(وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ فَمَحَلُّهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَيْضًا، وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، غَيْرَ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: لَا بَأْسَ بِالتَّثْوِيبِ الْمُحْدَثِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِفَرْطِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا، وَشِدَّةِ رُكُونِهِمْ إلَى الدُّنْيَا، وَتَهَاوُنِهِمْ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَصَارَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِنَا مِثْلَ الْفَجْرِ فِي زَمَانِهِمْ، فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِعْلَامِ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَكَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِزِيَادَةِ شُغْلٍ بِسَبَبِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، فَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ نَظَرًا لَهُمْ، ثُمَّ التَّثْوِيبُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ: إمَّا بِالتَّنَحْنُحِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، أَوْ قَامَتْ قَامَتْ، أَوْ بايك نماز بايك كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ بُخَارَى؛ لِأَنَّهُ الْإِعْلَامُ، وَالْإِعْلَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ.
(وَأَمَّا) وَقْتُهُ فَقَدْ بَيَّنَّا وَقْتَ التَّثْوِيبِ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: سُنَنِ الْأَذَانِ:

وَأَمَّا بَيَانُ سُنَنِ الْأَذَانِ فَسُنَنُ الْأَذَانِ فِي الصَّلَاةِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا- أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ فَيَرْفَعَ بِهِ صَوْتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ يَحْصُلُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ؟ وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ أَسْمَعَ لِلْجِيرَانِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ حُدُوثُ بَعْضِ الْعِلَلِ كَالْفَتْقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي مَحْذُورَةَ أَوْ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ رَآهُ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْأَذَانِ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَنْقَ طِعَ مُرَيْطَاؤُكَ وَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ، وَكَذَا يَجْهَرُ بِالْإِقَامَةِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْأَذَانِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْإِعْلَامِ بِهَا دُونَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْأَذَانِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ الْأَذَانِ بِسَكْتَةٍ، وَلَا يَفْصِلَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ الْإِقَامَةِ بَلْ يَجْعَلُهَا كَلَامًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْإِقَامَةِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ.
(وَمِنْهَا)- أَنْ يَتَرَسَّلَ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدِرَ فِي الْإِقَامَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِفْ» وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ، وَذَا فِي التَّرَسُّلِ أَبْلَغُ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْحَدْرِ، وَلَوْ تَرَسَّلَ فِيهِمَا أَوْ حَدَرَ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يُرَتِّبَ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ تَرَكَ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ يُرَتِّبُ وَيُؤَلِّفُ وَيُعِيد الْمُقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَغَا، وَكَذَلِكَ إذَا ثَوَّبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ فَظَنَّ أَنَّهُ فِي الْإِقَامَةِ فَأَتَمَّهَا، ثُمَّ تَذَكَّرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ- فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِقَامَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ التَّرْتِيبِ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ رَتَّبَ، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ مُؤَذِّنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا رَتَّبَا؛ وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ، وَالْأَذَانُ شَبِيهٌ بِهَا فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ سُنَّةً.
(وَمِنْهَا) أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَالَى وَعَلَيْهِ عَمَلُ مُؤَذِّنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ فَظَنَّ أَنَّهُ الْإِقَامَةُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ مَا فَرَغَ- فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ، وَيَسْتَقْبِلَ الْإِقَامَةَ مُرَاعَاةً لِلْمُوَالَاةِ وَكَذَا إذَا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ وَظَنَّ أَنَّهُ فِي الْأَذَانِ، ثُمَّ عَلِمَ- فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِقَامَةَ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا إذَا غُشِيَ عَلَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ سَاعَةً، أَوْ مَاتَ، أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ- فَالْأَفْضَلُ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ لِمَا قُلْنَا، وَالْأَوْلَى لَهُ إذَا أَحْدَثَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأ وَيُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ جَائِزٌ، فَالْبِنَاءُ أَوْلَى.
وَلَوْ أَذَّنَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءُوا أَعَادُوا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَتُهُ مَحْضَة، وَالرِّدَّةُ مُحْبِطَةٌ لِلْعِبَادَاتِ، فَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ شَاءُوا اعْتَدُّوا بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الْمُوَالَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ كَالْخُطْبَةِ فَلَا يَسَعُ تَرْكُ حُرْمَتِهِ وَيُكْرَهُ لَهُ رَدُّ السَّلَامِ فِي الْأَذَانِ لِمَا قُلْنَا، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْأَذَانِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَأْتِي بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ هَكَذَا فَعَلَ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، كَذَا فَعَلَ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَلِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إلَيْهِمْ إعْلَامًا لَهُمْ، كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدَمَاهُ مَكَانَهُمَا لِيَبْقَى مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي السَّلَامِ وَالصَّلَاةِ، وَيُحَوِّلَ وَجْهَهُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَذَا هاهنا وَإِنْ كَانَ فِي الصَّوْمَعَةِ: فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَزِمَ مَكَانَهُ، لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى الِاسْتِدَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً فَاسْتَدَارَ فِيهَا لِيُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ نَوَاحِيهَا فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ إذَا كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَالْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاسْتِدَارَةِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرَ جَزْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَذَانُ جَزْمٌ.
(وَمِنْهَا) تَرْكُ التَّلْحِينِ فِي الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: إنِّي أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: لِمَ قَالَ: لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُغَنِّي فِي أَذَانِكَ، يَعْنِي التَّلْحِينَ، أَمَّا التَّفْخِيمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إحْدَى اللُّغَتَيْنِ.
(وَمِنْهَا) الْفَصْلُ- فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ- بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ، وَالْفَصْلُ- فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ- بِالصَّلَاةِ أَوْ بِالْجُلُوسِ مَسْنُونٌ، وَالْوَصْلُ مَكْرُوهٌ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدِرْ»، وَفِي رِوَايَةٍ فَاحْذِفْ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِمْ، وَلْيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي»؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِاسْتِحْضَارِ الْغَائِبِينَ فلابد مِنْ الْإِمْهَالِ لِيَحْضُرُوا، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارُ الْفَصْلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْمَغْرِبِ يَقُومُ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفِي الْعِشَاءِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ مِقْدَارَ مَا يُحْضِرُ الْقَوْمَ مَعَ مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا يُفْصَلُ فِيهَا بِالصَّلَاةِ عِنْدنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْصَلُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إلَّا الْمَغْرِبَ»، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ»، وَالْفَصْلُ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ لَهَا، فَلَا يُفْصَلُ بِالصَّلَاةِ، وَهَلْ يُفْصَلُ بِالْجُلُوسِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْصَلُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: يُفْصَلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ، وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيُفْصَلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَصْلَ بِالْجَلْسَةِ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَصْلَ مَكْرُوهٌ، وَتَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا مَكْرُوهٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْكَرَاهَتَيْنِ يَحْصُلُ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ، وَبِالْهَيْئَةِ مِنْ التَّرَسُّلِ وَالْحَذْفِ، وَالْجَلْسَةُ لَا تَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا، وَهِيَ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ فَكَانَتْ مَكْرُوهَةً.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا:.
(مِنْهَا)- أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا إنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا فَقَدْ ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً، وَإِنْ خَفَضَتْ فَقَدْ تَرَكَتْ سُنَّةَ الْجَهْرِ؛ وَلِأَنَّ أَذَانَ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ فَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»، وَلَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَهُمْ حَتَّى لَا تُعَادَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ وَكَذَا أَذَانُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا حَتَّى لَا يُعَادَ ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ، لَكِنَّ أَذَانَ الْبَالِغِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُرَاعَاةِ الْحُرْمَةِ أَبْلَغُ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعْتَدُّونَ بِأَذَانِهِ، وَأَمَّا أَذَانُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا يُجْزِئُ وَيُعَادُ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ لَا عَنْ عَقْلٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَصَوْتِ الطُّيُورِ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ وَتَأْذِينُهُمَا تَرْكٌ لِتَعْظِيمِهِ، وَهَلْ يُعَادُ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَادَ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ كَلَامِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ هَذَيَانٌ، فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ.
(وَمِنْهَا)- أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ»، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا التَّقِيُّ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ، وَيُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ»، وَخِيَارُ النَّاسِ الْعُلَمَاءُ؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ سُنَنِ الْأَذَانِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْعَالِمِ بِهَا، وَلِهَذَا إنَّ أَذَانَ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، لَكِنَّ غَيْرَهُمْ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَفَرَّغُ لِمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَكَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَوَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْجَهْلُ.
(وَمِنْهَا)- أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّرِيرِ؛ لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ لَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَالْإِعْلَامَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالدُّخُولِ- مُتَعَذِّرٌ لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَذَّنَ يَجُوزُ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِصَوْتِهِ، وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ مُؤَذِّنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَعْمَى.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الْأَذَانِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْإِعْلَامِ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ بِصَوْتِ الْمُوَاظِبِ أَبْلَغُ مِنْ حُصُولِهِ بِصَوْتِ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ بِصَوْتِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ وَإِنْ أَذَّنَ السُّوقِيُّ لِمَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَغَيْرُهُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ- يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السُّوقِيَّ يُحْرَجُ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمَحَلَّةِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِحَاجَتِهِ إلَى الْكَسْبِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَاجْعَلْ أُصْبُعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى لِصَوْتِكَ وَأَمَدُّ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَنَبَّهَ عَلَى الْحِكْمَةِ» وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْإِعْلَامِ بِدُونِهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَإِنْ جَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى أُذُنِهِ فَحَسَنٌ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ فَإِتْيَانُهُ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا يَجُوزُ، وَلَا يُكْرَهُ حَتَّى يُعَادَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعَادُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَذَانِ شَبَهًا بِالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ، فَمَا هُوَ شَبِيهٌ بِهَا يُكْرَهُ مَعَهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رُبَّمَا أَذَّنَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَذَانِ وَإِنْ أَقَامَ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَسَوَّى بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَقَالَ: وَيَجُوزُ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ إقَامَةَ الْمُحْدِثِ.
(وَالْفَرْقُ) أَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ الْفَصْلُ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ الْأَذَانِ، وَلَا تُعَادُ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْأَذَانِ.
وَأَمَّا الْأَذَانُ مَعَ الْجَنَابَةِ فَيُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُعَادَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ- وَهُوَ الْإِعْلَامُ-، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْجَنَابَةِ ظَهَرَ فِي الْفَمِ فَيَمْنَعُ مِنْ الذِّكْرِ الْمُعَظَّمِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ، وَكَذَا الْإِقَامَةُ مَعَ الْجَنَابَةِ تُكْرَهُ لَكِنَّهَا لَا تُعَادُ لِمَا مَرَّ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا إذَا أَذَّنَ لِلْجَمَاعَةِ، وَيُكْرَهُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَذَّنَ قَائِمًا حَيْثُ وَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ فِعْلًا، فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَإِجْمَاعَ الْخَلْقِ؛ وَلِأَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ بِالْقِيَامِ وَيُجْزِئُهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُرَاعَاةُ سُنَّةِ الصَّلَاةِ لَا الْإِعْلَامُ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُبَّمَا أَذَّنَ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَذَانَ أَصْلًا فِي السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ رَاكِبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَيُكْرَهُ الْأَذَانُ رَاكِبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ ثَمَّ الْمُؤَذِّنُ يَخْتِمُ الْإِقَامَةَ عَلَى مَكَانِهِ، أَوْ يُتِمُّهَا مَاشِيًا، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَخْتِمُهَا عَلَى مَكَانِهِ سَوَاءً كَانَ الْمُؤَذِّنُ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُتِمُّهَا مَاشِيًا، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَوْلَهُ: (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ، إمَامًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَصَحُّ.
(وَمِنْهَا)- أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدَيْنِ، وَيُصَلِّيَ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي، وَالتَّنَفُّلُ بِالْأَذَانِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ يَخْتَصُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي يُصَلِّي النَّافِلَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ لَا يُسَاعِدهُمْ فِيهَا.
(وَمِنْهَا)- أَنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ، وَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ: فَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ اكْتِسَابَ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِهِ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ تَأَذَّى بِهِ أَوْ لَمْ يَتَأَذَّ (احْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَخِي صُدَاءَ أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا إلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّ أَخَا صُدَاءَ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ».
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ «لَمَّا قَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: لَقِّنْهَا بِلَالًا، فَأَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ فَأَقَامَ».
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ وَبِلَالٌ يُقِيمُ، وَرُبَّمَا أَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ.
(وَمِنْهَا)- أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ أَجْرًا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الطَّاعَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَإِنْ عَلِمَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُجَازَاةِ عَلَى إحْسَانِهِ بِمَكَانِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.